سورة البقرة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
{القرية} بيت المقدس. وقيل: أريحاء من قرى الشام، أمروا بدخولها بعد التيه {الباب} باب القرية. وقيل: هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام. أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً. وقيل: (السجود) أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات. وقيل: طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوها، ودخلوا متزحفين على أوراكهم {حِطَّةٌ} فعلة من الحط كالجلسة والركبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي مسألتنا حطة، أوأمرك حطة. والأصل: النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة. وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات، كقوله:
صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلاَنَا مُبْتَلَى ***
والأصل صبراً، على: اصبر صبراً.
وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب على الأصل.
وقيل معناه: أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقرّ فيها.
فإن قلت: هل يجوز أن تنصب حطة في قراءة من نصبها ب (قولوا)، على معنى: قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. والأجود أن تنصب بإضمار فعلها، وينتصب محل ذلك المضمر ب (قولوا). وقرئ {يغفر لكم} على البناء للمفعول بالياء والتاء {وَسَنَزِيدُ المحسنين} أي من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة. {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} أي وضعوا مكان حطة {قَوْلاً} غيرها. يعني أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاؤا بلفظ آخر، لأنهم لو جاؤا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به، لم يؤاخذوا به. كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللَّهم اعف عنا وما أشبه ذلك. وقيل: قالوا مكان حطة: حنطة. وقيل: قالوا: بالنبطية: (حطا سمقاثا) أي حنطة حمراء، استهزاء منهم بما قيل لهم، وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا. وفي تكرير {الذين ظَلَمُواْ} زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم. وقد جاء في سورة الأعراف: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف: 133] على الإضمار. والرجز: العذاب. وقرئ بضم الراء وروى: أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً. وقيل: سبعون ألفاً.


{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
عطشوا في التيه، فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له: {اضرب بّعَصَاكَ الحجر} واللام إمّا للعهد والإشارة إلى حجر معلوم. فقد روي: أنه حجر طوري حمله معه، وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم، وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً، وقيل: أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى شعيب، فدفعه إليه مع العصا. وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة، ففرّ به، فقال له جبريل: يقول لك الله تعالى: ارفع هذا الحجر، فإنّ لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. وإمّا للجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر.
وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. وروى أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة، فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه. وقيل: كان يضربه بعصاه فينفجر، ويضربه بها فييبس. فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً، فأوحى إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون. وقيل: كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان. وقيل: كان من أُسِّى الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار: {فانفجرت}، الفاء متعلقة بمحذوف، أي فضرب فانفجرت. أو فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ. وقرئ {عشرة} بكسر الشين وبفتحها وهما لغتان {كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} عينهم التي يشربون منها {كُلُواْ} على إرادة القول {مِن رّزْقِ الله} مما رزقكم من الطعام وهو المنّ والسلوى ومن ماء العيون. وقيل: الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والعثيّ: أشدّ الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.


{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
كانوا فلاحة فنزعوا إلى عَكَرِهم فأَجَموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء {على طَعَامٍ واحد} أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى.
فإن قلت: هما طعامان فما لهم قالوا على طعام واحد؟ قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً يراد بالوحدة نفي التبدّل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف، ونحن قوم فِلاَحَةٍ أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول ونحو ذلك. ومعنى {يُخْرِجْ لَنَا} يظهر لنا ويوجد. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها. وقرئ {وقُثائها} بالضم. والفوم: الحنطة. ومنه فوّموا لنا، أي: اخبزوا. وقيل: الثوم. ويدل عليه قراءة ابن مسعود: {وثومها} وهو للعدس والبصل أوفق {الذى هُوَ أدنى} الذي هو أقرب منزلة وأدون مقداراً. والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو داني المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك فيقال: هو بعيد المحل وبعيد الهمة يريدون الرفعة والعلو.
وقرأ زهير الفرقبي: (أدنأ) بالهمزة من الدناءة {اهبطوا مِصْرًا} وقرئ {اهبُطوا} بالضم: أي انحدروا إليه من التيه. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه، إذا خرج. وبلاد التيه: ما بين بيت المقدس إلى قنسرين، وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ. ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث، لسكون وسطه كقوله: {وَنُوحاً وَلُوطاً}. وفيهما العجمة والتعريف، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد، وأن يريد مصراً من الأمصار وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش: {اهبطوا مصرَ} بغير تنوين كقوله: {ادخلوا مِصْرَ}. وقيل: هو مصرائيم فعرّب {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم، خيفة أن تضاعف عليهم الجزية {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} من قولك: باء فلان بفلان، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به، لمساواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه {ذلك} إشارة إلى ما تقدّم من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب، أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وقد قتلت اليهود لعنوا شعيا وزكريا ويحيى وغيرهم، فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، فلو سئلو وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به القتل عندهم.
وقرأ عليّ رضي الله عنه {ويقتِّلون} بالتشديد {ذلك} تكرار للإشارة {بِمَا عَصَواْ} بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14